يعتقد البشر منذ الأزل أن الفلسفة كفر؛ لأنها تتطلع لكل ما يخافون منه، وهو استخدام العقل فى التساؤل عن أشياء، تبدو فى حينها وكأن ليس لها إجابة، فتصبح هرطقة وضلالًا لمن يشعرون بالأمان فى كيانهم الصغير الذى اقتنعوا أنه مركز الكون كله.
ولكن الفلسفة ليست إلا طرح الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها بالتأمل. مثلها مثل أى علم، يكتشف هذا نقطة، وبعد موته يكتشف آخر نقطة أخرى بعيدة عن الأولى، وبعد موته أيضًا يكتشف آخر كيف يرسم خطًّا مستقيمًا باستخدام هاتين النقطتين، فيكون اكتشافًا. لولا التساؤل لما ظهر علم، ولما عشنا الآن تلك الحياة نفسها، بكل الآليات التى نمتلك، ولما عرفنا الكون. فأول من تساءل عن ما الكون، وما الأرض، وما الإنسان، ولماذا هو موجود فى هذا المكان؟ لم يكن إلا فيلسوفًا، لكن قلة ظهورهم فى كل عصر يجعل منهم فريسة لمجموع التابعين الذين لا يريدون بينهم من يتساءل عن أكثر مما يعرفون.
[size=20]يوم من الأيام تطاول المسيحيون على آلهة الوثنيين، فراحوا يضربون تمثالًا، ويستهزئون به، ثم يسألونهم عن قدراته، ولماذا لا يستطيع الدفاع عن نفسه؟ فعمل كبير الوثنيين على حث شعبه على الانتقام من هؤلاء الفجرة بقتلهم لكى يأخذوا حق آلهتهم ويموتوا فى سبيلها، كى ينعموا بعد الموت. فهلل الجمع «كما يفعل دائمًا أى جمع»، وذهبوا يقتلون هؤلاء، وأصبحت الشوارع مليئة بالدماء. فرد عليهم المسيحيون بأسلحتهم، وقتلوهم وكسّروا أصنامهم، وهدُّوا معابدهم فوق رؤوسهم، وذلك أيضًا لأنهم من على حق وسينصرهم المسيح. فما باتت المدينة إلا خرابًا وبحر دماء، بين من كانوا فى الصباح جيرانًا وأصدقاء.
[/size]
فكرّ الآن وأنا أحكى لك ذلك، وأنت لا تؤمن بدين أى منهما، فستشعر تلقائيًّ بأن كلا الطرفين أغبياء، وبأنهم كلهم فى النار، وأن كل هذا كان محض عبث. ولكن إن كنتِ مع أحدهما، فستشعر بأن من آمن معهما كانوا على حق، فهم غاروا على دينهم كأى مؤمن تقي، وكان من الواجب عليهم أن يثأروا من أجل ربهم. أليس كذلك؟
هكذا هو الإنسان يا عزيزي، هو وحده من يملك الحقيقة المطلقة، هو وحده من يكون الرب فى عونه على أعدائه، هو وحده من يغلق عقله عن أى حقيقة تحمل فى طياتها أنه ومن عاداه فى الأصل واحد فيتقبله. فى يوم من الأيام كان يتباهى اليهود بكونهم شعب الله المختار الذى اصطفاه على العالمين، وقتل أطفال المصريين جميعًا من أجلهم، ودمر من البشرية كثيرًا لكى يحميهم وحدهم. وعندما أتى هتلر بجيوشه ليقتلوهم ويحرقوهم ويذيقوهم العذاب، كان يرى اليهود شارات قاتليهم، محفورًا عليها جملة «الله معنا»، لأنهم كانوا أيضًا مؤمنين أنهم أبناء الرب المختارين. فمن كان الرب فى صفهم حينها فعلًا؟
الإنسان كائن مغرور جدًّا، والفيلسوف كائن حائر جدًّا، بحيث لا يجد بوسعه إلا المشاهدة من بعيد، ليحلل طبيعة الإنسان ويكتشف ذاته وعالمه أكثر، دون انحياز لأى جهة، دون الكره لأى مختلف عنه، لأنه لا يعرف إلا أنه فى الحقيقة لا يعرف أى شيء!
الفطرة كما تحتم علينا معرفة الله، هى أيضًا تحتم علينا فرض الإنسانية بيننا والحكم دون عدة موازين، بل بميزان واحد لأننا كبشر فى النهاية واحد لا محالة.. الناس ليسوا بحاجة لمن يدعوهم إلى الدين، بل بحاجة ملحة وشديدة لمن يدعوهم إلى تعاليم الإنسانية.