الكاتب الأرجنتينى بورخيس غامض بعض الشيء، يقول إن قراءة الرواية مثل الجنس ومثل التطلع في المرايا، يضاعف كل شيء، ليس واضحا كالعادة، ولكنه يتنازل ويفسر لنا قليلا، القراءة تضيف خبرة جديدة وتعرفنا على العديد من الشخصيات، كل شخصية ليست خبرة جديدة فقط ولكن حياة مضافة، كأنك تعيش حياة أخرى فوق حياتك، قراءة الروايات يطيل العمر كما يقولون، لأنها تضيف إلينا حيوات أخرى، إنه أمر معنوي كما ترى، ولكنها إحدى مزايا القراءة، فهي تفتح النوافذ المغلقة، وتحول العالم الراكد والمتكرر من حولك إلى حياة حافلة مليئة بالإثارة
وأحيانا ما تكون تعزية عن الفقدان والخسارة، وكان أحد حكماء العرب القدامى يقول: "إنها متعة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"، ولا يزال حكامنا على تلك الحال، منذ أن قامت دولنا ولا يوجد حاكم عربي -إلا فيما ندر- يقدر القراءة أو يستمتع بها، ناهيك بالاستفادة منها، معظمهم لا يجيدون سوى قراءة تقارير الأمن، تلك التي تبقيهم على عروشهم، لم أسمع في حياتي حاكما يقتبس قولا مأثورا من كتاب، أو ما يشير إلى أنه قرأ تقريرا عن أحوال الناس، نحن ندرك بالطبع أنه لا يوجد حاكم يكتب خطاباته، ولكن حتى هؤلاء الكتبة يتجنبون هذه الأمور تماما حتى لا تلتصق تهمة القراءة والاطلاع بالحاكم الذي يكتب له. نحن شعوب جاهلة، لذا يحكمنا بأريحية قصوى حكام أكثر جهلا منا، يعادون الكتب ويتحينون الفرص للتخلص من المثقفين، وهم لا يطيعون أي قانون، لأن كل القوانين مكتوبة وهم لا يقرؤون، البطش سهل في زمن الجهل، ربما كان الكتاب هو العلاج الأمثل ضد الاستبداد.
العرب
هل يصلح الكتاب كعلاج؟ الكتب ليست كائنات صامتة فوق أرفف المكتبات، وعلى خلاف العديد من الوسائط تتجاوز طبيعتها البسيطة المتقشفة، أنها ليست أحبارا وورقا، ولكنها مخزن ينبض بالمعاني والرموز والتجارب البشرية، ومهما كان نوع الكتاب فهو يعطيك الدرس الأول والأجدر في الحياة، أنه دائما ما يوجد أمل، ولا توجد مشكلة مستعصية على الحل، فدون الكتب تغدو الحلول ضيقة والخيارات صعبة ولكن قوة الكلمات تكمن في أنها تمنحنا طاقة إضافية على التفكير الخلاق والحلول المبتكرة، بالنسبة لي شخصيا فأنا أقدس الروايات وأعتبرها هبة ربانية خالصة، كالماء والهواء وزرقة البحر والسماء، أن قراءتها متعة خالصة تساعد على اعتدال المزاج في لحظتها الراهنة وأداة مهمة للتهوين من صعوبات الحياة. ولكن لماذا تستأثر الرواية بكل هذه المتعة؟ لم أعرف الجواب إلا عندما قرأت بعضا من الأبحاث الحديثة حول "الشفرة العصبية"، ومحاولة العلماء لمعرفة كيف تعمل خلايا المخ أثناء عملية التفكير، فهي يتصل بعضها ببعض، بواسطة نوع من النبضات الكهربائية المنتظمة، وقد تمكن العلماء من التقاط بعضها ووضعها في مصفوفة خوارزمية أشبه بعمل الكمبيوتر، وتقوم خلايا معينة في المخ بإرسال ومضات مهمتها تنبيه الذاكرة الخفية التي قد لا يدرك الإنسان وجودها، هذه الخلايا هي التي تقوم بتسجيل الحوادث والأماكن والشخصيات، وهي تستيقظ عند القراءة كلما ربطها القارئ دون أن يدري بموقف أو ذكرى أو حتى رأي، هذه الومضات لا تنعش الذاكرة فقط ولكنها تبعث بنوع من متعة المعرفة. القراءة يمكن أيضا أن توقظ في الجسم المريض خاصية مقاومة الأمراض وتزيد من قدرته على السعي للشفاء، وهذا ما تم اكتشافه مؤخرا، العلاج بالكتب أو "البوك ثربي Book therapy" أصبح تعبيرا شائعا بين أطباء الأمراض النفسية، رغم أنه يعود بجذوره إلى أزمنة قديمة، فمكتبة الإسكندرية كانت تعتبر مركزا لعلاج الأمراض، وكانت مفتوحة بالمجان على مدار النهار والليل لكل من يقصدها، الطبيب اليوناني جالينوس كان يؤمن أيضا بهذا العلاج ولكنه لم يكن كريما كأهل الإسكندرية فقد كان يتقاضى أجرا عن كل نصيحة وعن كل مخطوط، وفي الإسلام اعتبر القرآن ترياقا شافيا لكثير من الاضطرابات النفسية وكان يوصف للمرضى الموجودين في مستشفى المنصور قلاوون بالقاهرة، ولكن المشكلة أن الكثير من الأفاكين قد استخدموه كإحدى أدوات النصب على المتدينين من البسطاء، وهناك عصابة من المشايخ ينشرون إعلاناتهم ويظهرون على شاشات التليفزيون بلحاهم الشعثاء الفجة ويعلنون بكل وقاحة أنهم يملكون القدرة على التداوي بالقرآن، رغم أنهم لا يملكون إلا بعض التعاويذ القديمة التي لا تمت للدين بأي صلة، ولكن العلاج بالكتب مفهوم حديث نسبيا، وقد أصبح نوعا من العلاج الجماعي يشارك فيه أطباء النفس والإخصائيون الاجتماعيون وأمناء المكتبات أيضا، ومن الغريب أن هذه الظاهرة الواسعة الانتشار قد تولدت هي أيضا عن رواية صدرت عام 1920، اسمها "المكتبة المسكونة" ومؤلفها هو كريستوفر مورلي، صحفي وروائي وشاعر أمريكي غزير الإنتاج، وتدور حول بائع كتب يجلس وسط مكتبة عتيقة لا يفوح منها غير رائحتين، رائحة الجلد الذي يغلف الكتب، ورائحة الغليون الذي لا يكف البائع عن تدخينه، إلى هذا البائع يأتي كل المتعبين الذين تثقلهم الهموم، ويعانون من مشكلات تؤرق نفوسهم، ويستمع البائع إليهم باهتمام قبل أن يمد يده إلى رف المكتبة ليختار له الكتاب المناسب لحالته، وهو يقول: "متعتي هي وصف الكتب للمرضى الذين يأتون إليَّ وهم مستعدون لإخباري بأعراض أمراضهم. ولا يوجد على وجه الأرض أكثر امتنانا من إنسان أعطيته كتابا كانت تتوق إليه روحه ولم يكن يعرف بوجوده". كشفت الرواية عن الأهمية الطاغية للقراءة وكيف أن الكتاب أكثر تأثيرا في النفس من بعض الأدوية أو النشاطات الاجتماعية، فهو يتداخل مع الشخص الوحيد، الذي يعاني، ويمكن أن يغير من أفكاره ويوسع مداركه، الكتاب هو نوع من العلاج الذاتي، لأنه أداة للتخلص من التوتر، وقد وجد الأطباء النفسيون أن المرضى المصابين بالتوتر يمكن أن يزول توترهم من خلال اندماجهم في القراءة، وقد أصبح من المهم أن توجد أماكن للقراءة حتى في أشد الأماكن صعوبة، مستشفيات الأمراض النفسية، والسجون، وإصلاحيات الأولاد الجانحين، وفي مصر تقف الأمية حائلا وسدا أمام هذا النوع من العلاج، وكذلك عدم وجود المعالجين المدربين على هذه الطريقة، العلاج بالقراءة وبخاصة قراءة القصص يمكن أن تطبق أيضا في علاج بعض مشكلات الأطفال النفسية والسلوكية، لأنها يمكن أن تقدم نموذجا للقيم والسلوك التي يقتدى بها الطفل، كما أن للقراءة المنتظمة الهادفة مردودا إيجابيا في دعم الشخصية وتنمية المعرفة.